ماض أليم ومستقبل مجهول

ربما أكون أحد الذين لم يكتبوا بغرابة مانعة أو يتمنوا العودة في الرجوع إلى زمن الطفولة !!؟، ذلك الزمن البعيد الذي يأوي في خلد ذاكرتنا، وللتوضيح هنا أسبابه كما أن له آلامه، إنني لا أريد العودة الى الجحيم !!! والجحيم – يارفاق – هنا هو جحيمي الخاص، وليس جحيمكم، إنه زمن جحيم الطفولة وأليمها المُر.
لا أريد حتى أتذكر أو أكتب عن مرارة تلك الأيام التي عشتها واعتاشت عليَّ في ذاك الوقت، الذي لن أقول فيه ليته يعود، بل ليته يخرج من ليل ذاكرتي المُثقل لها.
هااا، لا أريد أتذكر وقوفي..
يومًا شامخاً أمام منصة العّلم اليمني في المدرسة لأداء ” النشيد الوطني ” وأمعائي وقتها ترقص، وبطريقتها الموجوعة تحيي هي بدلاً عني النشيد بوطنية الجياع،
لا يشعر الأغنياء بالوطن، والوطنية في وطني هي للجياع فقط، وكنتُ وحال معدتي تقرقرُ أستمع للحن الذي أتى منذُ سنوات بي إلى صنعاء ثم كلية الاعلام لأعيش حلمي، بنطالي أيضًا المُرقع كخريطة الشروق الاوسط، المزقية من فعل الحرب وتسابق القوى المهيمنة عنها، وحقيبتي التي كانت من أكياس الأرز الامريكي.. آه، تجعلني أنطقها بصوتٍ مجلل، آه ما أقساها تلك الأيام.
لا أريد أن اتذكر المثل الشعبي الذي يقول اعتباطًا ” لِبس المرقع وهو قائد امةٍ ”
لا أريد كذلك أن اتذكر اليوم مائة ريال رسوم اختبار لم أستطع دفعها، وكنت أنظر للمدرسة من بعيد
كأنما ودعتني، كأنما هي جثة، كألم.
لا أريد أن أتذكر اللحظات التي كنت أسمع فيها أيوب طارش وقت الراحه العذبة، وهو يردد : هاهو المؤتمر الشعبي يناضل
ولا أريد إطلاقاً أن أتذكر الاصدقاء الذين كانوا يذهبون الى البقال لشراء ” البفك والعصير اليماني والبسكويت الجلكوز” وأنا أمد يدي الى حقيبتي المصنوعة من شوالة الأرز وأُخرج كِسرة الخبز التي وضّعتها أمي في حقيبتي ، نعم كان هذا اقسى شعور على الإطلاق
لا أريد أن أتذكر الاستاذ الذي
ضربني وشتمني بالغبي والحمار أمام زملائي وأمام أختي التي كانت في نفس الصف معي،لأني فقط لم أحفظ سورة ” قل يا ايها الكافرون ” ،ربما شعرت حينها أن الأستاذ يبغضني ويكرهني عن بقية الطلاب،
بل لا أريد أن أتذكر حين اللحظة التي افترقنا فيها للأستاذ من عشرة ريال لشراء مساحة سبورة ومكنسة للفصل ، ربما بكيت بحرقة،تلك اليوم لأني لا تمتلك غيرها وأول مره أحصل على عشرة ريال مصروف مدرسة من والدي الذي عاد من عدن..
لا أريد أن أعود لهذه الطفولة ولا أريد أن أعود لأستاذ النحو الذي لم يدرسنا غير جملتين فقط “؛أحمد ضرب الحمار ” وأحمد ضرب البُقري، وأحمد نفسه ضرب نفسه.
لا أريد أن أتذكر حال حذائي البلاستيكي إطلاقاً فمن أين أبدأ!!؟ وكيف أشرح هذا الوجع،؟
ربما لن يصدق أحد أنني كنتُ ألبس فردتين مختلفتين واحدة طويلة الحجم والأخرى قصيرة ،لا أريد أن أعود لهذه الطفولة التي كنتُ فيها مسخرة ومضحكة لكل زملائي الناعمين في رغد العيش.
تلك الجملة تستفزني حتى اللحظة عندما كان الاستاذ يشرح الوجبة الخفيفة لطالب العلم المكونة من خبز طاوه وبيض وكاس حليب، مازلت اتذكر حين مر الاستاذ يسأل كل طالب ماذا ياكل الصباح !!حتى وصل عندي وسالني ماذا تاكل انتَ!! لم استطيع الجواب حينها فصرخ عليّ ثم اجبته ببرائة مافيش معنا طحين (دقيق) قال ابي سيبيع محصول البن وششتري لنا دقيق!! فضحك كل من في الفصل وبكيت انا فغضب الاستاذ منهم وصاح عليهم بالسكوت واعطاني خمسين ريال، ربما لن انسي هذه اللحظة وهذا الوجع اطلاقاً ولن اسامح هذا الاستاذ الذي سالني هذا السؤال واشتراء وجعي وبكائي حينها بخمسين ريال !!
ربما لن يستطيع احد أن يتذكر كيف عاش وهو في هذه المرحلة المتأخرة لكني اذكر كل لحظة وبالتفصيل اذكر حجم المعاناة وحجم الالم ، !!!!!
اعرف انه ليس لكم علاقة ولستم بحاجة لسماع معاناتي المقرفة ولن تستطيعوا إعادة الماضي ،
وما كنت اريد التعبير عنه هو كيف علموننا الوقوف امام النشيد الوطني !!؟
وكيف اجبروننا بحفظ الاحاديث عن عدم الغش وكيف علموننا قول الحق!!
وعدم السكوت ،وهم لاينتمون لهذه الاشياء بصله،..
بل اصبحوا ينفرون منا لاننا اتبعنا وطبقنا ما علمونا،هل تغيرت المبادئ والقيم والمناهج بتغير الزمن!!
ام انهم كان يملوا علينا ماهو مكتوب فقط؟؟!
ربما لن اشكر الزمن الذي مضى ولن اشكر ما تعلمته ايضاً لانه اصبح زوراً ونفاق…
ولن اتنمىء العودة الى طفولتي كما يكذب البعض اننا كنا لانشعر فيها بالالم والمعاناة،
ربما انا الوحيد الذي لا أحب الماضي ولا الحاضر ولا افكر بالمستقبل كثيراً ،
انني اعيش يومي فحسب ..
ولا افكر بالانتحار اطلاقاً ربما هذا تفكير الضعفاء وربما يكون العكس.!؟
سئمتُ من كل شيء حتى من ذاتي التي لم تخدم البشرية كما كنت أحلم، ولا بشيء ياشوقي، ولا بشيء، قلت كما كنت أحلم!.
أنا عالة على هذا الوطن الممتليء بالبؤساء والمطحونين المليء بالجوع والحرب والحصار.
ما الذي جعل درويش في إحدى قصائده، ينطق بلساني مقولة شعرية أصبحت عندي من أذكار الصباح والمساء : أنا لاشيء يعجبني.
من ديوان مذكرات طالب الذي لم ينشر بعد
شوقي نعمان
صحفي ورئيس تحرير موقع ريشة